ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم قصص الأولين والآخرين ، قصص من أطاع الله وما فعل بهم ، وقصص من عصاه وما فعل بهم . فمن لم يفهم ذلك ولم ينتفع به فلا حيلة فيه . كما قال تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ .
وقال بعض السلف : " القصص جنود الله " يعني أن المعاند لا يقدر يردها .
فأول ذلك : ما قص الله سبحانه عن آدم ، وإبليس ، إلى أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض . ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لمن تأمله ، وآخر القصة قوله تعالى : قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وفي الآية الأخرى : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا إلى قوله وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى .
وهداه الذي وعدنا به : هو إرساله الرسل . وقد وفى بما وعد سبحانه ، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . فأولهم : نوح . وآخرهم : نبينا صلى الله عليه وسلم . فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل ، الذي بين الله وبين عباده ، الذي من استمسك به سلم ، ومن ضيعه عطب .
فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم ، وعدوك إبليس ، وما جرى لنوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، وإبراهيم وقومه ، ولوط وقومه ، وموسى وقومه ، وعيسى وقومه ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم وقومه .
واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه وما جرى له معهم في مكة ، وما جرى له في المدينة .
واعرف ما قص العلماء عن أصحابه وأحوالهم وأعمالهم . لعلك أن تعرف الإسلام والكفر . فإن الإسلام اليوم غريب وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر . وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح .
وأما قصة آدم ، وإبليس : فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه . ولكن قصة ذريته . فأول ذلك أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر ، وأخذ عليهم العهود : أن لا يشركوا به شيئا ، كما قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج . ورأى فيهم رجلا من أنورهم . فسأله عنه؟ فأعلمه أنه داود . فقال : كم عمره؟ قال : ستون سنة . قال : وهبت له من عمري أربعين سنة ، وكان عمر آدم ألف سنة . ورأى فيهم الأعمى والأبرص والمبتلى . قال : يا رب لم لا سويت بينهم ؟ قال إني أحب أن أُشْكَر . فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين أتاه ملك الموت . فقال : إنه بقي من عمري أربعون سنة . فقال : إنك وهبتها لابنك داود . فنسي آدم فنسيت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته .
فلما مات آدم بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ، دين الإسلام . ثم كفروا بعد ذلك . وسبب كفرهم الغلو في حب الصالحين . كما ذكر الله تعالى في قوله وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم . فماتوا في شهر . فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم . فصوروا صورة كل رجل في مجلسه لأجل التذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم ، ولم يعبدوهم . ثم حدث قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم من قبلهم ، ولم يعبدوهم . تم طال الزمان ، ومات أهل العلم . فلما خلت الأرض من العلماء : ألقى الشيطان في قلوب الجهال : أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليستشفعوا بهم إلى الله ، فعبدوهم .
فلما فعلوا ذلك : أرسل الله إليهم نوحًا عليه السلام ، ليردهم إلى دين آدم وذريته الذين مضوا قبل التبديل ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه ، ثم عَمَرَ نوح وأهلُ السفينة الأرض ، وبارك الله فيهم ، وانتشروا في الأرض أممًا ، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها ؟
ثم حدث الشرك . فأرسل الله الرسل . وما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولا يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك . كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الآية .
ولما ذكر القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
فقص الله سبحانه ما قص لأجلنا . كما قال تعالى لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى الآية .
ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة - في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - أشياء فعلوها قال أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم ، ليعتبروا بذلك .
وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما جرى له مع قومه ، وما قال لهم ، وما قيل له .
وكذلك نقلهم سيرة الصحابة ، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين ، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم . كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر .
إذا فهمت ذلك :
فاعلم أن كثيرا من الرسل وأممهم لا نعرفهم ؛ لأن الله لم يخبرنا عنهم لكن أخبرنا عن عاد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد . فبعث الله إليهم هودا عليه السلام . فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عُدم بعد مدة لا ندري كم هي؟ ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام ، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم . فجرى عليه من قومه ما جرى ، وآمنت به امرأته سارة . ثم آمن له لوط عليه السلام ، ومع هذا نصره الله ، ورفع قدره ، وجعله إماما للناس .
ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام لم يعدم التوحيد في ذريته . كما قال تعالى وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .
فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله . لا يستغني مسلم عن معرفتها . فنقول :
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله قوله : إِنِّي سَقِيمٌ وقوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وواحدة في شأن سارة . فإنه قدم أرض جبَّار ومعه سارة . وكانت أحسن الناس . فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي : يغلبني عليك ، فإن سألك . فأخبريه : أنكِ أختي . فإنكِ أختي في الإسلام . فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه . فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك . فأرسل إليها ، فأُتيَ بها . فقام إبراهيم إلى الصلاة . فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها . فَقُبِضَتْ يده قبضة شديدة . فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ، فلك الله : أن لا أضرك . ففعلت ، فعاد : فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضة الأولى . فقال لها مثل ذلك ، فعاد فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضتين الأولتين . فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ، ولك الله أن لا أضرك ، ففعلت . فأطلقت يده . ودعا الذي جاء بها ، فقال له : إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي ، وأعطاها هاجر . فأقبلت . فلما رآها إبراهيم . انصرف ، فقال لها : مَهْيَم ؟ قالت : خيرًا . كف الله يد الفاجر ، وأخدم خادمًا . قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
وللبخاري : أن إبراهيم لما سئل عنها قال : هي أختي ، ثم رجع إليها . فقال : لا تكذبي حديثي . فإني أخبرتهم أنك أختي . والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك . فأرسل بها إليه فقام إليها . فقامت تتوضأ وتصلي . فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط عليَّ يد الكافر ، فغطَّ حتى ركض برجله الأرض . فقالت : اللهم إن يمت ، يقال : هي قتلته . فأُرسِل . ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط عليَّ هذا الكافر فغط حتى ركض برجله . فقالت : اللهم إن يمت يقال : هي قتلته . فأُرسِل في الثانية أو الثالثة . فقال : والله ما أرسلتم إليَّ إلا شيطانًا ، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر . فرجعت إلى إبراهيم ، فقالت : أشَعُرْتَ؟ إن الله كبت الكافر ، وأخدم وليدة .
وكان عليه السلام في أرض العراق . وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشام . واستوطنها ، إلى أن مات فيها . وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار . فواقعها . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت سارة . فأمره الله بإبعادها عنها . فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق . ومن وراء إسحاق يعقوب .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان : خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعه شَنّة فيها ماء . فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فَيَدِرُّ لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة . فوضعها تحت دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء . ثم قَفّى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل . فلما بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا - وفي لفظ : إلى من تَكِلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : رضيتُ - ثم رجعت . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها . وجعلت تنظر إليه يَتَلَوَّى - أو قال يَتَلَبَّطَ - فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه . فوجدت الصفا أقرب جبل إليها ، فقامت واستقبلت الوادي تنظر : هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدًا . فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها . ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها . فنظرت : هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ - تعني الصبي - فذهبت فنظرت . فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقر نفسها . فقالت : لو ذهبت لَعَلِّي أحس أحدًا ؟ فذهبت فصعدت الصفا . فنظرت . فلم تحس أحدًا . حتى أتمت سبعًا . ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ؟ فإذا هي بصوت . فقالت : أغِثْ إن كان عندك خير . فإذا بجبريل . قال : فقال بعقبه على الأرض . فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر ، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا - وفي حديثه : فجعلت تغرف الماء في سقائها - قال : فشربت وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة . فإن ههنا بيتًا لله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، إن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية . تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله . فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من جُرهم مقبلين من طريق كَداء ، فرأوا طائرا عائفًا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء . لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جَريّا ، أو جريين . فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وقالوا لأم إسماعيل : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا . وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشَبَّ الغلام . وتعلم العربية منهم . وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل . وجاء إبراهيم - بعد ما تزوج إسماعيل - يطالع تَرِكَته ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة . فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام ، وقولي له يُغَيِّر عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك ، فأخبرته ، وسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته : أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم . أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غَيّر عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك . الحقي بأهلك ، فطلقها . وتزوج منهم امرأة أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مُطّلع تركتي . فجاء ، فقال لامرأته : أين إسماعيل؟ قالت : ذهب يصيد . قالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ قال : وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : بركة دعوة إبراهيم ، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب . ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله . قال : إذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم . شيخ حسن الهيئة - وأثنت عليه - فسألني عنك ؟ فأخبرته . فسألني : كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير . قال : هل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء . فوافق إسماعيل يَبْري نَبْلًا له تحت دَوْحة قريبًا من زمزم . فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتًا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني . حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له . فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هذا آخر حديث ابن عباس .
فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل . ثم لذريته من بعده ، وانتشرت ذريته في الحجاز وكثروا . وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة . ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدنيا : نشأ فيهم عمرو بن لُحَي . فابتدع الشرك ، وغَيّر دين إبراهيم . وتأتي قصته إن شاء الله .
وأما إسحاق عليه السلام : فإنه بالشام . وذريته : هم بنو إسرائيل والروم . أما بنو إسرائيل : فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ، ويعقوب هو إسرائيل .
وأما الروم : فأبوهم عيص بن إسحاق .
ومما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام : أن الله لم يبعث بعده نبيًا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . وكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق . وأما إسماعيل : فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله إلى العالمين كافة ، وكان مَنْ قبله من الأنبياء : كل نبي يبعث إلى قومه خاصة . وفضله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك .
وأما قصة عمرو بن لُحَيٍّ ، وتغييره دين إبراهيم : فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة ، والحرص على أمور الدين . فأحبه الناس حبًا عظيمًا . ودانوا له لأجل ذلك . حتى مَلّكوه عليهم . وصار ملك مكة وولاية البيت بيده . وظنوا أنه من أكابر العلماء ، وأفاضل الأولياء . ثم إنه سافر إلى الشام . فرآهم يعبدون الأوثان . فاستحسن ذلك وظنه حقًا . لأن الشام محل الرسل والكتب . فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم . فرجع إلى مكة ، وقدم معه بهُبَل . وجعله في جوف الكعبة ، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله . فأجابوه . وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة . لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم . فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق . فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم عليه السلام وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي .
وكانت الجاهلية على ذلك ، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله . وأيضًا يظنون أن ما هم عليه ، وأن ما أحدثه عمرو : بدعة حسنة . لا تغير دين إبراهيم . وكانت تلبية نزار : لبيك . لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .