معجزاته ودلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم
من أعظم الأقوال الحكيمة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تبيِّن لهم البراهين والأدلة القطعية الدالة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين .
ولا شك أن الآيات والبينات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته كثيرة متنوعة ، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء ، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين :
( أ ) منها : ما مضى وصار معلومًا بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى .
( ب ) ومنها : ما هو باق إلى اليوم كالقرآن ، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه ، فإن ذلك من أعلام نبوته ، وكشريعته التي أتى بها ، والآيات التي يظهرها الله وقتًا بعد وقتٍ من كرامات الصالحين من أمته ، وظهور دينه بالحجة والبرهان ، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك وهذا باب واسع لا أستطيع حصره ؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته على المطالب الآتية :
المطلب الأول : معجزات القرآن العظيم .
المطلب الثاني : معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية .
المطلب الأول
معجزات القرآن العظيم
المعجزة لغة : ما أُعجزَ به الخصم عند التحدي .
وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله ، يجعله الله على يد من يختاره لنبوته ؛ ليدلَّ على صدقه وصحة رسالته .
والقرآن الكريم كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المعجزة العظمى ، الباقية على مرور الدهور والأزمان ، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة .
وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته صلى الله عليه وسلم في القرآن ، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسية كمن تقدمه ، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره ؛ لأن كل نبي أُعطي معجزة خاصة به ، تحدَّى بها من أُرسل إليهم ، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه ؛ ولهذا لما كان السحر فاشيًا في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة ، لكنها تلقف ما صنعوا ، ولم يقع ذلك بعينه لغيره .
ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيَّر الأطباء ، من : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، وكل ذلك من جنس عملهم ، ولكن لم تصل إليه قدرتهم .
ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله - سبحانه - معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات ؛ لأنه حجة مستمرة ، باقية على مرِّ العصور ، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها ، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السامع من فم رسول الله ، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال صلى الله عليه وسلم : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومَ القيامة .
والقرآن الكريم آية بيِّنة ، معجزة من وجوه متعددة ، من جهة اللفظ ، ومن جهة النظم ، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أمر بها ، ومعانيه التي أخبر بها عن الله - تعالى - وأسمائه وصفاته وملائكته ، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالمٍ ما فتح الله عليه به منها وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز على النحو الآتي :
الوجه الأول : الإعجاز البياني والبلاغي :
من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان ، والتركيب المعجز ، الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله ، فعجزوا عن ذلك ، قال تعالى : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، وقال تعالى : أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ .
وبعد هذا التحدي انقطعوا فلم يتقدم أحد ، فمدَّ لهم في الحبل وتحداهم بعشر سور مثله : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة ، فقال تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ .
فقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا أي : فإن لم تفعلوا في الماضي ، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل ، فثبت التحدي ، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان ، كما أخبر قبل ذلك ، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .
فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزًا لهم ، قاطعًا بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن ، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك ، وهذا التحدي لجميع الخلق ، وقد سمعه كل من سمع القرآن ، وعرفه الخاص والعام ، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه ، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ صلى الله عليه وسلم إلى اليوم والأمر على ذلك .
والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات ؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة ، وقد وقع التحدي بسورة واحدة ، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر ، وهي ثلاث آيات قصار ، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية ، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة ، ويقع بذلك التحدي والإعجاز ؛ ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسية والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .